اليابان خيال إقتصادي
منذ انتهاء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي كثرت الدراسات والأبحاث والكتب لكبار المفكرين والكتاب والباحثين الغربيين حول التجربة اليابانية الحديثة (المعجزة اليابانية) مبدين في كثير من الأحيان تخوفهم من نجاح اليابان والفوز أخيراً بالزعامة القطبية العالمية، بعد انتهاء نظام القطبية الثنائية في بداية تسعينات القرن العشرين و انتهاء الحرب الباردة وذلك لأن اليابان حققت في فترة هذه الحرب قفزات كبيرة في عالم التكنولوجيا والصناعة بالخصوص، والاقتصاد عموماً ونافست بضائعها البضائع الأمريكية الأمر الذي دعاهم الكتاب للبحث في أسرار المعجزة اليابانية ليس للاستفادة والتعلم منها، وإنما لوقف أو الحد من الاندفاعة اليابانية المعاصرة، في هذا المقال سنتناول أسباب وعوامل نجاح التطور الياباني لتعريف القارئ الكريم بأهم تجربة نهضة عالمية حديثة يمكن الاستفادة منها وأخذ الدروس والعبر سيما وأن اليابان لا تنتمي إلى العالم الغربي وإنما دولة شرقية آسيوية لها تراثها ومميزاتها وخصائصها المختلفة عن أي دولة غربية.
1*مقومات نجاح تجربة التحديث اليابانية:
بعد سنوات الحرب العالمية الثانية المدمرة لكل أركان الإقتصاد الياباني كانت اليابان في بداية إعادة الإعمار والبناء الصناعي و الاقتصادي مرة أخرى ، فتم دعوة دكاترة أمريكيين متخصصين في تطوير الصناعة وبيع منتجاتها بطريقة ناجحة بعضهم اخترع نظرية جديدة في الإقتصاد سميت ب ( نظرية الجودة) حضر هؤلاء الإقتصاديين إلى اليابان لإلقاء عدة محاضرات و أمام رجال الأعمال والصناعيين والمهندسين و العمال و في الجامعات اليابانية.
وقد لاقت نظرية الجودة و مبدأ النوعية صدى واسع جدا باليابان و تبنتها جميع المصانع و المعامل حتى أصبحت مطبقة في جميع انحاء اليابان بشكل لازم و تم اخضاع كل السلع والمنتجات اليابانية لاختيارات قاسية للكشف عن العيوب التصنيعية و الخلل أثناء الإنتاج وأضفت عليها طابع الجودة التامة.
وقد أدت هذه الخطوة الهامة إلى تحسن سمعة السلع والمنتجات اليابانية على مستوى العالم لأن أي سلعة أو منتج لا تخرج من المصنع الا وقد تم اجتيازها لاختيارات الجودة والنوعية مما جعل المستهلك يقبل عليها سواء بالولايات المتحدة أو خارجها نظرا لجودتها وخلوها من العيوب التصنيعية. وقد أدى هذا التطبيق إلى كسب ثقة المستهلك عالميا و إلى قفز حصة المنتجات اليابانية بالسوق الأمريكية من 4 % إلى 20 % خلال سنوات قليلة والى نسبة أكبر خلال السنوات التالية مما أدى إلى تكدس المنتجات والسلع الأمريكية بالمخازن وعزوف المستهلكين عنها وفي الأخير إلى كسادها. ولقد أساءت الشركات والمصانع الأمريكية في ذلك الوقت فهم هذا الأمر بالسوق و أعادت ظاهرة الإقبال على المنتجات اليابانية إلى عامل السعر الأقل فعمدت إلى ضرب الأسعار و تخفيضها.
و الحقيقة أن سوء فهم الموضوع كبد الشركات و المصانع الأمريكية الكثير مما أدى إلى خروج الكثير منها من الأ سواق سواء الداخلية أو الخارجية فزادت حصة المنتجات اليابانية و هيمنتها بالسوق الأمريكية والعالمية. وبعد سنوات من الحيرة تمكن الأمريكيون من الوصول إلى السر و بدؤا بتطبيق نظرية الجودة.
2*اللغز الياباني :
و هو مبدأ جديد و متطور اسمه (الجودة الشاملة) التي طورها اليابانيون بعد تطبيقهم لمبدأ الجودة والنوعية (التي كانت أمريكية بالأصل) و هي تتلخص في التركيز على تطوير جودة كل خطوة من خطوات الإنتاج و الوقاية من الأخطاء التصنيعية قبل حدوثها و بالتالي عدم تأثر المنتج النهائي بأي خطأ. فاليابانيون بعد أن كانوا يستوردون الجودة أصبحوا مصدرين لها وأصبح العالم باكملة يحاول ان يلحق بالركب الياباني في تقديم المنتجات بجودة تماثل الجودة اليابانية كما أن اليابانيين أرفقوها بأثمنة في متناول الجميع ولم يضيفوا إليها أية قيمة أخرى.
3*جودة المنتجات اليابانية :
في حديث لمسؤول كبير في إحدى المؤسسات الأمريكية تعمل في مجال التقنية المتقدمة يقول: ( لقد هزمتنا اليابان في أي حقل يختارونه: في صناعة الراديوهات، التلفزيونات والسيارات وغيرها من الصناعات، لقد تغلبوا علينا في جودة المنتجات والأسعار المنخفضة، والآن يتغلبون علينا في مجال الإبداع..)
( تبدأ القصة بعد الحرب العالمية الثانية حيث خرجت اليابان منها مهزومة محطمة، وكانت سياسة السلطات الأمريكية لليابان تهدف إلى إقالة اليابان من عثرتها وإعادة تكوينها لتصبح ضمن المعسكر الغربي حتى يتم مراقبة الصين الشيوعية ومحاصرة الإتحاد السوفياتي ايديولوجيا واستخباراتيا، ولكن تلك السياسة لم تكن تهدف ولا تتصور أن ما تقدمه من مساعدة لليابان يمكن أن تخرج هذا العملاق مرة أخرى من قمقمه... فتساهلت الولايات المتحدة في نقل التقنية الأمريكية لليابان بل شجعت على ذلك وكانت شركة سوني شركة يابانية مغمورة وناشئة- تأسست سنة 1946-، ولكنها كانت طموحة وذات بصيرة نافذة، فتولت زمام المبادرة في بدء رحلة نقل التقنية الإلكترونية لليابان، وكان ذلك عندما تمكنت من شراء رخصة تصنيع جهاز الترانزستور في اليابان من شركة بل الأمريكية مقابل 25000 دولار.
وكان هذا شأن الشركات اليابانية الأخرى التي استخدمت نفس الإستراتيجية التي تتمثل في شراء رخص التصنيع لمنتج أمريكي ما، ثم تعمل على تقليد التصميم وتنتجه بعد أن تضيف إليه تحسينات تجعله أكثر جودة وبتكاليف أقل وأسعار أقل، واستمر اليابانيون يسلكون هذا الطريق لعدة عقود من الزمن دون أن يتنبه الأمريكيون لخطورة هذا الوضع ، ولم يدركوا ذلك إلاخلال الثمانينات من القرن العشرين عندما اشتدت المنافسة اليابانية للمنتجات الأمريكية والأوروبية، فأخذت حكومات تلك الدول والشركات الخاصة فيها تضع القيود والأنظمة التي تحد من نقل التقنية لليابان أو تمنعها إن كان ذلك في مقدروها، ولكن ذلك التنبة جاء بعد فوات الأوان، لأن اليابان كانت قد بلغت مرحلة النضج، وتجاوزت مرحلة التقليد والتبني إلى مرحلة الأبحاث الذاتية والإبداعات الذاتية التي جعلتها مصدراً غنياً للتقنية ، وفي مركز قوي يفرض حتمية تبادل التقنيات المختلفة مع تلك الدول
4*أسباب وعوامل أدت إلى حدوث المعجزة اليابانية :
قبل أن نتناول أسباب النجاح الياباني لا بد من الإشارة إلى أن قوانين التقدم العامة تختزن في الممارسة العملية سمات إيجابية بحيث يصبح التقدم سمة المجتمع بأكمله في عملية حركية معقدة. كذلك قوانين التخلف التي تحول المجتمع في الممارسة العملية أيضاً إلى حلقات متشابكة معقدة يقع خلالها المجتمع بأسره في دائرة التخلف والتبعية التي يصعب الخروج منها إلا بكسر الحلقات الأساسية التي تسجن حركة المجتمع داخل التخلف. وبالرغم من صعوبة معرفة أسباب نجاح تجربة التحديث اليابانية بسبب ما يحيطها من غموض إلا أنه يمكننا أن نحددها بالأسباب والمجالات التالية:
- اعتماد مبدأ الكفاءة، يتم اعتماد هذا المبدأ بشكل دقيق بحيث أن الياباني لا يشعر بوجود حواجز ماتقف أمامه أو تعرقل جهده الفعال للوصول إلى الغاية المرجوة، وبالتالي هناك تشجيع مستمر لعمله.
-الافتخار بالانتساب إلى الشركة أو المؤسسة، وهذه سمة هامة في نظام العمل الياباني إذ يتحول العامل أو الموظف إلى جزء لا يتجزأ من الشركة أو المؤسسة التي يعمل بها، ويبقى العامل مستقراً في شركته طالما بقي على قيد الحياة، حيث الرتبة والراتب لا يفارقانه طيلة عمله بالشركة، ولا يوجد نظام النقل، أي نقله من مؤسسة إلى أخرى كما هو الحال في معظم البلدان النامية.
- التوازن بين المصلحة الخاصة ومصلحة الجماعة: يقوم نظام العمل الياباني بالدرجة الأولى على المصلحة العامة مع عدم الإضرار بالمصلحة الفردية الخاصة أي أن مصلحة الشركة هي المحددة لنظام العمل. ولا توجد أضرار لمصلحة الفرد ما عدا عدم الاستقرار للنساء العاملات إذ يتم قذفهن إلى الخارج ولا يشعرن بالاستقرار عند زواجهن وانجابهن للأطفال، وعدا عن هذا فالشركة تؤمن قسطاً كبيراً من حاجيات ومتطلبات العاملين لديها، وتعتبر الشركة بالنسبة للعامل مصدر فخر واعتزاز بالانتماء إليها.
-الاعتماد على الكفاءة والمستوى العلمي وليس التوارث أو المحسوبية.
-الاعتماد على الأقدمية والسن للتدرج في السلم الوظيفي إلى نهاية الخدمة.
-التعاون الوثيق والعلاقة الحميمة بين العمال والمدراء على كافة المستويات، وتبني مبدأ القرار الجماعي.
-التعاون الوثيق بين نقابات العمال ورجال الأعمال وبينهم وبين إدارات الدولة والتصرف العقلاني على أساس أن الأفضلية المطلقة يجب أن تعطى لمصلحة اليابان العليا ودورها على المستوى الدولي.
-الاعتماد على مبدأ العامل الشريك في العمل وإشعاره بالاستقرار العام طيلة حياته المهنية بحيث يتحول إلى جزء لا يتجزأ من الشركة أو المؤسسة التي يعمل بها كما مرّ معنا آنفاً.
-حل المشاكل العالقة عن طريق التحكيم والمساومة ورفض اللجوء إلى الإضرابات وتعطيل الإنتاج وبالرغم من سلبيات هذا المبدأ على مستوى العامل المعيشي إلا أن نتائج هامة تحققت على هذا المبدأ في مجال تضخيم الإنتاج الياباني وتجميل صورة اليابان كواحدة من أكثر البلدان استقراراً داخلياً، وإفادة لأصحاب الرساميل الضخمة التي تبحث عن الاستقرار في عالم شديد الاضطراب، وفي هذا المجال يمكن الإشارة إلى أن وزارة التجارة الخارجية والصناعة اليابانية تقوم بتمويل المشاريع الداخلية والخارجيةوتساهم في إقامة التوازن بين الشركات اليابانية وبين القطاع العام والخاص، وفي تمويل المشاريع ذات الأبعاد المستقبلية، وترفض المشاريع ذات الإنتاجية المتدنية، وتعطي الأولوية للسلع ذات الإنتاج التنافسي علي المستوى العالمي خاصة في مجال الإلكترونيات والكمبيوتر...
ولا يمكن تجنيب دور التعليم ومميزات الشعب الياباني في المعجزة اليابانية فمن الناحية التعليمية من المعروف أن اليابان تتفوق على جميع دول العالم بما فيها أمريكا و بريطانيا ..
فنسبة دخول الجامعات في اليابان يكون بمعدل 35% أمـــا في بريطانيا فهو 5% فقــط ..
و يتلقى الطفل الياباني منذ صغره على أن العمل الجماعي هو الناجح و الأفضل ، و مما يدل على ذلك أن الطيار الياباني يكون أفضل إذا كان مع مجموعة أخرى بينما يقل آداؤه إذا كان وحيدا ...و التعليــم في اليابان يعد متطورا إلى أبعد الحدود ..ومن حيث العادات و الأخلاق ،فعادات اليابانيين تكاد تكون قريبة من عادات المسلمين الحقيقيين .
يتميز الشعب الياباني بنبل أخلاقه وهدوئه يحب العمل والتعاون والأنشطة الإجتماعية واليابان التي نراها الآن ترفض الإختلاط في المدارس و يعتبر اليابانيون الفتاة التي اتبعت الحياة الغربية أن سلوكها سلوك فوضوي و أنها وقعت في فخ نصب لها .
كما يحرص اليابانيون على تنشئة البنت تنشئة ممتازة خالية من الشوائب ، و في استفتاء أجري على مجموعة من اليابانيين قال 90% قالوا : إن تدبير أمور المنزل ، ورعاية الأطفال هي المجال الأول للمرأة ثم يأتي بعدها دورها في العمل.
اليابان خيال إقتصادي |
هل صناعة السيارات مفتاح المعجزة اليابانية؟
تمكنت اليابان من تحقيق معجزة اقتصادية غير مسبوقة بعد الحرب العالمية الثانية عندما تحولت تلك الدولة، التي وقع إمبراطورها على ورقة بيضاء أمام الجنرال الأمريكي دوجلاس ماك أرثر كوثيقة لاستسلام اليابان، إلى ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم خلال عدة عقود من الزمان فقط.
وقد كانت صناعة السيارات قاطرة التقدم الاقتصادي الياباني في اليابان خلال النصف الثاني من القرن العشرين واصبح لليابان خمس شركات ضمن قائمة أكبر عشر شركات سيارات في العالم-تويوتا,سوزيكي,هوندا,ميتسوبيشي-. وأصبحت السيارة اليابانية سفير المعجزة التي حققها هذا الشعب وتتجول في كل شوارع العالم.
ولكن هناك صفحة منسية في تاريخ المعجزة اليابانية والتي تتناول الدور الحاسم الذي لعبه مهندسو الطيران اليابانيون في تثبيت صناعة السيارات اليابانية والانطلاق بها نحو العالمية.
وفي تحقيق صحفي نشرته صحيفة (جابان تايمز) اليابانية كشف الصحفي تايجا أورناكا اسرار هذه القفزة التي حققتها بلاده في مجال صناعة السيارات.
في البداية يقول الصحفي الياباني إنه رغم تحول صناعة السيارات اليابانية إلى رمز لنجم اليابان الذي سطع في سماء الاقتصاد العالمي بعد الحرب العالمية الثانية فإن قلة قليلة هي التي تدرك أن الجزء الأكبر من نجاح هذه الصناعة يرجع إلى جهود المهندسين الذين شاركوا في تطوير وتصميم الطائرات العسكرية لسلاح الجو الياباني خلال الحرب العالمية الثانية. فقد كان مهندس الطيران الياباني جيرو تاناكا أثناء الحرب العالمية يعمل كمهندس لإحدى الطائرة المقنبلة اليابانية في إحدى القواعد الجوية بإقليم كوفو ياماناشي. وفجأة استسلمت اليابان في الخامس عشر من غشت 1945م. وفي هذا الوقت وجد هذا المهندس نفسه عاطلا عن العمل بعد استسلام البلاد وتم حل الجيش الياباني واحتلال القوات الأمريكية لليابان. ولم يجد وغيره من مهندسي الطيران اليابانيين المهرة مفرا سوى الهجرة إلى صناعة السيارات اليابانية ليستخدموا كل خبراتهم في مجال المحركات الميكانيكية في هذه الصناعة الواعدة.
وقد ساعد هؤلاء المهندسون في الطفرة الكبيرة التي شهدتها صناعة السيارات اليابانية من خلال تحسين جودة السيارات وخفض التكلفة بصورة سمحت بطرح السيارات بأسعار معقولة مما أدى إلى زيادة المبيعات بصورة كبيرة. ففي عام 1965 كان عدد السيارات في الشوارع اليابانية لا يتجاوز 1.78 مليون سيارة. وقفز هذا الرقم بمقدار 30 ضعفا اليوم ليصل إلى 56 مليون سيارة.
وهذا النمو السريع لصناعة السيارات ساعد ايضا المهندسين على اختبار حدود خبراتهم وقدراتهم الهندسية في التطوير والتصميم. ومن بين هؤلاء المهندسين تاتسو هاسيجاوا كبير المديرين سابقا في تويوتا موتور كورب أكبر منتج للسيارات في اليابان وكبير المهندسين الذين صمموا الجيل الاول من السيارة تويوتا كورولا عام 1966 لتصبح أكثر سيارات اليابان مبيعا حتى اليوم.
وهذا الرجل تخرج من كلية الهندسة في الجامعة الإمبراطورية بطوكيو عام 1939 مهندس طيران. وقد أصبح كبير مصممي الطائرة المقاتلة اليابانية كي 94 والتي كانت تهدف إلى التصدي للقاذفة الأمريكية بي 29 أثناء الحرب العالمية الثانية. وباعتباره خبيرا في تصميم أجنحة الطائرة بحيث تقلل مقاومة الهواء إلى أدنى درجة ممكنة فإنه نقل هذه الخبرة إلى صناعة السيارات في اليابان.
أما جيرو تاناكا فكان زميل هاسيجاوا في أحد مصانع الطائرات في منطقة تاشيكاوا غرب طوكيو أثناء الحرب العالمية الثانية. وقد تحول أيضا إلى صناعة السيارات بعد الحرب وأصبح كبير مديري شركة نيسان موتور ثالث أكبر منتج للسيارات في اليابان حاليا.
وبعد هزيمة اليابان قرر الاحتلال الأمريكي تفكيك الصناعات الجوية اليابانية ووجد مهندسو الطيران اليابانيون أنفسهم فجأة عاطلين عن العمل ويحتالون على المعيشة من تصنيع القدور والمجارف من بقايا الصلب في مصانع الطائرات.
وفي ذلك الوقت كان هناك بعض رجال الأعمال اليابانيين الذين يتمتعون برؤية ثاقبة مثل كيشيرو تويودا مؤسس تويوتا موتور كورب الذي كان مدركا للغاية للقدرات الهائلة لمهندسي الطيران وبدأ توظيفهم في الشركة بعد الحرب مباشرة.
وبالفعل نجح في تعيين 200 مهندس طيران ومهندسين من تخصصات أخرى. وسرعان ما جنى الرجل ثمارا هائلة من هذه الخطوة فأصبحت تويوتا موتور ثاني أكبر شركة سيارات في العالم.
ولما أدرك هؤلاء المهندسون أنه لم يعد أي أمل في قيام صناعة طيران جديدة في اليابان وضعوا رهانهم كله على صناعة السيارات. وأدركوا أن السيارة التي كانت شيئا كماليا ويقتصر استخدامها على النخبة الاجتماعية لن تلبث حتى تصبح شيئا شعبيا يركبها الجميع.
ويقول تاناكا إنه كان سيظل مهندس طيران لو لم يتم تفكيك هذه الصناعة في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية. ويضيف (عندما أنظر إلى الماضي أكتشف كم أنا سعيد بالتحول إلى صناعة السيارات).
بل إن شركة ناكاجيما إيركرافت للصناعات الجوية تحولت إلى العمل في مجال صناعة السيارات بعد الحرب العالمية. وكانت السيارة سوبارو 360 من أوائل السيارات التي انتجتها الشركة التي ورثتها شركة فوجي هيفي إنداستريز وذلك عام 1958م.
وكانت هذه السيارة الصغيرة رخيصة الثمن سببا مباشرا في انتشار السيارات في اليابان وتحولها إلى سلعة شعبية يمكن للكثيرين اقتناؤها بعد أن كانت سلعة قاصرة على النخبة والأثرياء. وبفضل تصميمها المعقد ومحركها المتطور ظلت السيارة سوبارو 360 تتمتع بمكانة أسطورية في عالم السيارات باليابان.
كما عمل مهندسو الطيران بعد دخولهم حقل صناعة السيارات كجسر لعبور جيل جديد من مهندسي السيارات.
فقد انضم شينشيرو ساكوراي الذي يبلغ من العمر 76 عاما إلى شركة سيارات أسسها مجموعة من مهندسي الطيران بمن فيهم تاناكا عام 1952م. وقد تم تغيير اسم الشركة إلى برنس جيدوشا واندمجت مع نيسان موتور عام 1966م.
اشتهر ساكوراي بأنه مبتكر السيارة سكاي لاين التي أنتجتها نيسان وهي سيارة رياضية سريعة وشعبية. ورغم انه لم يكن أبدا مهندس طيران فإنه كان يقول باستمرار: إن السيارة مجرد منتج من منتجات تكنولوجيا هندسة الطيران.
وأضاف أن مهندسي الطيران الذين عمل معهم غرسوا فيه الحرص على الوصول إلى درجة الكمال وطالبوه بالاهتمام بأدق التفاصيل وكأنه يصنع طائرة يمكن أن تسقط لمجرد وجود خلل بسيط فيها.
وهؤلاء المهندسون لم يتجاهلوا حتى ماسحة المطر في السيارة وكانوا يقولون لي دائما ما هو المطلوب في هذه الماسحة؟ المطلوب أن تظل تعمل وألا تسقط في الوقت نفسه. ولذلك يجب الاهتمام بها حتى يتحقق الهدف.
لقد كانت إقامة صناعة طيران متطورة في اليابان وقادرة على منافسة الطائرات الغربية المتقدمة أحد أهم أولويات الحكومة اليابانية قبل الحرب العالمية. كما أن أنبغ طلبة الهندسة هم هؤلاء الذين كانوا يدرسون هندسة الطيران في الجامعة الإمبراطورية في طوكيو في ذلك الوقت.
ونظرا لعدم وجود تراث علمي ياباني في مجال الطيران فقد كانت الساحة مفتوحة أمام هؤلاء الدارسين لكي يستوردوا النظريات العلمية من أي مكان في العالم دون الخوف من الدخول في صدام مع الأجيال الأكبر في اليابان.
يقول كازيوشي سوزوكي كبير مراقبي متحف العلوم الياباني وخبير تاريخ الهندسية في اليابان إن هؤلاء المهندسين بدأوا من حيث انتهى العالم في مجال تكنولوجيا الطيران لذلك لم تكن مفاجأة أن تحقق صناعة السيارات اليابانية كل هذا التقدم في فترة قصيرة بعد استقطاب هذا الجيل من المهندسين المبدعين الذين تحولوا من (المحركات الجوية إلى المحركات البرية).
وقد ترك مهندسو الطيران اليابانيون بصمتهم أيضا على شركة هوندا موتورز ثاني أكبر شركة سيارات في اليابان بعد أن أدرك مؤسس الشركة سوشيرو هوندا التأثير الإيجابي الذي تركه هؤلاء المهندسون في الشركات الأخرى.
ومن بين هؤلاء المهندسين الذين أثروا في مسيرة هوندا موتورز يوشيو ناكامورا. فبعد أن عمل في مجال المحركات النفاثة أثناء الحرب قاد قطاع انتاج سيارات السباق فورميولا بشركة هوندا خلال الفترة من عام 1964 حتى 1968م.
ورغم أن مؤسس هوندا كان يتمتع بسلطات مطلقة على كل شيء في الشركة فإن ناكامورا كان حالة خاصة حيث لم يكن يخضع لتلك السلطات وكثيرا ما دخل في مواجهات معه وفقا لما قاله سانو الذي يعمل حاليا أستاذا في جامعة دينكي بطوكيو.
وقال سانو (مهندسو الطيران أدخلوا مفاهيم صناعة الطيران مثل قوة الهيكل إلى عالم صناعة السيارات). ورغم الدور الحيوي الذي لعبه هؤلاء المهندسون في صناعة السيارات اليابانية فما زال الكثيرون لا يعرفون حقيقة هذا الدور ولا قيمته.
ويقول تاكانوري مايميا الذي تناول تاريخ الدور الذي لعبه مهندسو الطيران اليابانيون في صناعة السيارات إن السبب وراء تجاهل الدور الذي لعبه مهندسو الطائرات اليابانيون في صناعة السيارات اليابانية كان أيديولوجيا في المقام الأول حيث كان هناك حرص على عدم إظهار مشاركة المؤسسة العسكرية اليابانية السابقة في النهضة الاقتصادية بعد الحرب. وأضاف أنه لا يريد القول إن الحروب تلعب دوراً مهماً في التقدم التكنولوجي لكن الواقع يقول إن هذه حقيقة.
تعتبر المعجزة اليابانية من أكثر المعجزات الحضارية إثارة للدهشة، فبرغم بعدها عن العالم ووقوعها تحت حزام زلزالي هائل، وتكونها من أرخبيل من الجزر المتناثرة التي تصل إلى 3 آلاف جزيرة، وتعرضها للغزو الثقافي من الصينيين والكوريين إلا أنها منذ عصر مضى وهي تحث الخطى نحو غزو العالم في البدء عسكريا والآن صناعيا وحضاريا.
فاليابان قدمت للعالم ثقافة العمل والابتكار وما زالت الدول المنافسة أسيرة التقليد وكثافة العمل واستغلال رخص الإيدي العاملة واليابان ما زالت صاحبة أكبر معدلات براءات اختراع واليابان التي لم تكتف بالغزو والإبداع الصناعي بل غزت العالم بصادراتها الغذائية وآخرها وجبة السوشي.
والآن ونحن نعيش تداعيات كارثة تسونامي التي زلزلت العالم بأجمعه نجد اليابان تخرج من مأساتها وكأنها الفينيق يخرج من الدمار وتكرر خروجها من كارثة القنبلة النووية وكأن شيئا لم يكن دون تباك ولا خنوع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق